بضع كلمات وأربع فوائد تعلمتها في 2020

 العاشرة مساءً في خريفٍ متواضع. كان خريفًا خفيفًا، تهز ريحه اللينة أغصان الشجر الجافة. وعلى ضوء مصباح فلورسنت صارخ كنت أقرأ كتاب (الأشجار واغتيال مرزوق) للكاتب عبدالرحمن منيف. كانت صفحاته باهتة نوعًا ما، ومصفرّة وتتراص الكلمات جنبًا إلى جنب في قلقٍ يتماشى مع القصة المربكة. علمّني الكتاب معنى الأشجار. معنى جديدًا للأشجار. علمني الكتاب كيف يمكن لشيء لا يصدر منه أي أفعال ولا يتفوه بكلمة واحدة كل ذلك التأثير. علمني الترابط القوي الذي يربط بين الإنسان والأشياء، وإن كان رابطًا شفافًا، فهو واضح تمامًا تأثيره، وجلي جدًا أثره. علمّني كيف تستطيع الأشياء التي نرى فيها جزءً من شخصياتنا أن تنطق وإن كانت غير ناطقة. كيف تستطيع أن تتحرك وإن كانت راسخة تضرب الأرض بجذورها. كيف تستطيع أن تبكي وإن لم يكن لها مدامع. كيف تستطيع أن تضحك، أن ترقص، أن تصمت، أن تنظر وكيف تستطيع أن تترك كل ذلك التأثير في شخصٍ ما. 

في برد الشتاء وفي ليلةٍ لم أر فيها الميدان الكبير أمام بيتنا إثر الضباب الغريب الذي عمَّ الأجواء. وكأن تلك السنة لم ترد إلا أن يكون كل شيء بها جديدًا تمامًا ولم يحدث من قبل. وجدت ملجأي في فراشي أقرأ بعضًا من كتاب (خواطر شاب) لكاتبه أحمد الشقيري. هو كتاب خفيف في الواقع ويحمل الكثير من الأمور الهامة والمنسية. ثم قرأت جملةً وأقتبس "تكرار الخاطرة يحولها إلى فكرة، وتكرار الفكرة يحولها إلى خطة والخطة تتحول إلى عمل، وتكرار العمل يحوله إلى عادة. عاداتك ستحدد نجاحك أو فشلك في الحياة؛ لذلك راقب كل خاطرة، فالخواطر تحدد مصيرك". ولكم أثرت فيّ تلك الجملة البسيطة في تراكيبها، ولكن قوية في معناها. فمنذ أن قرأتها وفهمتها وهضمتها أصبحت أراقب خواطري، فأنتقي الحسن منها وأرسل السيئة إلى منفى وهمي في عقلي في مكان عشوائي لا أستطع الوصول إليه مرة أخرى. فالخواطر هي البذرة لكل نبتة، وأنا أريد نبتتي صالحة، ذكية وطيبة. 

"البشمين" هي كلمة جديدة تعلمتها العام الماضي أٌضيفت إلى قائمة طويلة من كلمات لن أستخدمها كثيرًا. صراحةً ستمر أيام قليلة حتى أنسى هذه الكلمة وسأنسى تمامًا استخدامها في أي عمل كتابي قادم. لديّ هاجس بأني سأحتاج هذه الكلمة قريبا ولكنّي لن أتذكرها وسأضرب بأناملي على مقدمة رأسي في محاولة بائسة لإنعاش ذاكرتي. أعتقد بأني سأعود إلى هذه المقالة غير مرة.
ملحوظة: بشمين تعني شال صوف يُصنع من شعر الماعز. 

في صباح يوم آخر من شهر مارس المنصرم استيقظت -على غير العادة- نشيطًا وتملأني طاقة مهولة لم أعلم مصدرها. حضَّرت كوب شاي لذيذ وقطفت ورقات نعناع من حديقتنا الصغيرة لأعزز بها طعم الكوب الصباحي، أشعر بطعمه على طرف لساني. ثم فتحت حاسوبي وبدأت قراءة رواية (صاحب الظل الطويل) للرائعة جين وبستر. كيف يمكن أن يفهم المرء معنى الوحدة وهو لم يقرأ صاحب الظل الطويل؟ كيف يمكن أن يفهم معنى التعلق وهو لم يقرأ صاحب الظل الطويل؟ كيف يمكن أن يفهم مرارة الفقد وهو لم يقرأ صاحب الظل الطويل؟ أريد أن أصرخ وأقول للجميع أن يقرأوا صاحب الظل الطويل. اترك المقالة واذهب الآن لقراءة صاحب الظل الطويل. سأنتظرك. معاني كثيرة كانت مجردة وخاوية بالنسبة لي حتى غيّرت هذه الرواية مفاهيم عدة. الراوية لم تتعمد أن تضع بداخل القاريء مفهوم قوي وعميق لكل تلك المشاعر والحالات التي قد يمر بها أي منّا. بل حاورت بأسلوب غير مباشر وبقلم جودي أبوت عقل كل قاريء وقلبه قبلًا حتى يترسخ بداخله المعاني الحقيقية لتلك المشاعر المهملة. لماذا لم تذهب لقراءتها؟

"الشجن". كلمة عرفتها منذ أعوام ولكنّي لم أعرف معناها الحقيقي إلا من شهورٍ فقط. والشجن هو الحزن أو الهم. ولكن وقع الكلمة على قلبي يرتبط بالطرب والانسياق التام في متعة الاستماع إلى مقطوعة موسيقية محببة، لا أعرف لماذا؟ عشت حياتيّ كلها وأنا أوظف الكلمة في موضعٍ غير موضعها. حتى الآن أشعر بأن الكلمة لها ارتباط قوي بالموسيقى.

خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس الطفل هو المثال الحي للطافة. كيف يمكن أن ينعم طفل بكل هذا الجمال والعنفوان والتلقائية؟ كل هذا الذكاء والفطانة. كتب خوسيه روايته (شجرتي شجرة البرتقال الرائعة) وللأمانة الرواية أكثر من رائعة. جسدت الرواية المعنى الحقيقي للطافة الأطفال وفطرتهم السليمة وحسن نواياهم. علمتني الرواية أن الأطفال هم الثوابت في التغير، وهم التغير الدائم في الأساس. طفل ذو عامٍ واحد يختلف تمامًا عن طفل يكبره بعام، وهذا الأخير يختلف تمامًا عن طفل يكبره بعامين وهكذا. ولكن يظل الأطفال أطفالًا في النهاية. تنظر في وجوههم فترى البراءة في أعينهم، وترى الحب الصادق، والحياة الوردية التي لم تعكرها الهموم بعد. خوسيه طفلًا شيطانًا بحق حسبما ذكر في روايته ولكنه الطفل الألطف بالنسبة لي. 

"المبادهة" مصطلحٍ عرفته حين سمعت مقطع صغير للشيخ مبروك زيد الخير عن دُهاة العرب الأربعة. وقد اختص به المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- ومعناه وأقتبس "إيجاد الحل والقول والخطاب والرد على البديهة". وهو مصطلح قوي وعميق وقلّ من اختص به ووُصف به. سأضيف صفة المبادهة لصفات الرجال الأكثر تأثيرًا. 

حمل العام الماضي الكثير من الحزن والشؤم والهم. وقد مرَّ جميعنا بتجارب جديدة لم يعشها من قبل. وقد مرَّ بعضٌ منا بتجارب مفجعة وأيام حزينة نسأل الله لهم الثبات والصبر. ولذلك فقد قررت أن أنشر بعض الأشياء الإيجابية التي حدثت في العام الماضي على صعيد شخصي، وأتمنى أن يفعل كلٌ منكم ذلك حتى تمّحي كوابيس ذلك العام من ذاكراتنا. 

ملحوظة: سقط من يدي كوب زجاجي وتهشم في أرجاء الغرفة حين شرعت أكتب هذه المقالة!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ظل الريح - كارلوس زافون

المخ الأبله

الأشجار واغتيال مرزوق - عبدالرحمن منيف