شوارعٌ فارغة واستئناس.

أشجار وأوراق.

في النهارات الصيفية، تحت الشمس بآشعتها المخملية الهادئة، أحب أن أحتسي شايًا دافئًا خارج المنزل. أتأمل الأشجار الواقفة في مكانها منذ زمن بعيد. منذ أن كانت الأرض يابسة، جامدة، لا تخرج  منها حياة. أنظر إلى أوراقها الخضراء والبنية، وتلك التي تحول لونها إلى البرتقالي كأن قرص الشمس الآخذ في الغروب قد طبع عليها قبلةً حانية. أنظر إلى الأغصان الغضة، والذابلة، وتلك التي تتحطم في يدك من هشاشتها. 

في يدي أحملُ كتابًا عادةً وأدون فكرةً أو أهز قدمي في شرود مع وقع ألحانٍ ما تتكرر في أذني. لكل شجرةٍ طابع خاص، على تشابهها جميعًا، فإن لكل شجرةٍ عالم تنفرد به عن الأشجار الأخرى. شجرة الكروم فضولية بشكل عجيب، تكاد تلمس عنان السماء إذا مدت له خيطًا يلمس الأفق. وشجرة الموز تحنو على الأرض بأوراقها الكبيرة المائلة، تفترش الأرض بجمالها الأخضر وبهائها المستطيل. أما شجرة الخوخ فهي صامتة، لا تكاد تتحرك، تسمع حفيف أوراقها في خجل، وتنظر إليك ثمارها من مخابئها تكاد ترتعد إن اقتربت منها.

ورود وسماء.

في ساعة الغروب يصبغ قرص الشمس السماءَ في الأفق بفرشاةٍ ناعمة مثالية بلون الكروم. ويصبغ الأرض الرخامية بحمرةٍ تهتز لها حبات الحصى خارج البيت. مشهدٌ يحمل الكثير من الحزن، الوداع ليس فعلًا محببًا ولكنه حتمي. تغادر الشمس صديقاتها من الأزهار. دوار الشمس مثلًا يبكي ويتكور على نفسه طيلة الليل منتظرًا ظهور  داعمه الأول والأخير. وتتكاتف وريقات النعناع، والورود الصغيرة تحمل بعضها بعضًا. 

شوارع فارغة واستئناس.

في ديسمبر تمر الشمس على منزلنا مرور الكرام. ترفع الأشجار أعناقها إلى السماء، وتمد الورود بتلاتها الصغيرة إلى الأفق. تتنعم جميعها بشعاع الشمس الدافيء بعد ليل شتاءٍ بارد وطويل. تسير الشمس بانتظام وفي عجالة ولا تكاد تمس الأرض حتى تغاردها. فتترك الحديقة ناعسة، والشوارع فارغة، وعلى فراغها استأنس بصوت النباتات الهامسة في الليالي الطويلة. أحتسي كوب الشاي الدافيء تحت بقعة الضوء الخافتة وفي يدي كتاب، وفي أذني يعزف لودوڤيكو ألحانًا للجليد في أقصى الأرض، والنباتات هنا في أمس الحاجة لتسليةٍ كهذه!

 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ظل الريح - كارلوس زافون

المخ الأبله

الأشجار واغتيال مرزوق - عبدالرحمن منيف