متاهة الأرواح - كارلوس زافون
متاهة الأرواح - كارلوس زافون
ترجمة: معاوية عبد المجيد
دار النشر: منشورات الجمل
التقييم: 4.5/5
التقييم: 4.5/5
رحلةٌ طويلة، وطويلة جدًا، ومنهكة، ولكنها تستحق كل دقيقة قد تم فنائها فيها، وكل فغرة فيه اندهاشًا لما أبداه الرائع كارلوس زافون في هكذا رحلة. رحلة قد أخذتني إلى أعماق برشلونة المظلمة إبان الحرب الأهلية الضارية، والفترة التي تلتها. في برشلونة أخرى غير التي نعرفها الآن. مدينة قد تتخلص منك في رمشة عين، وقد تسلب منك روحًا وأنت لاتزال على قيد الحياة، كما هو الحال مع دافيد مارتين والبقية. يحط كارلوس زافون رحاله في النهاية بعد موت الجنرال فرانكو ملخصًا على مسامعنا تفاصيل حكايته في محطة رابعة وأخيرة تسافر بك في الزمن من بعد بداية الحرب بقليل وخلال المناوشات التي تلت العام 1939 وحتى موت الجنرال فرانكو. شعرت وبطبيعة الحال وكما جرت العادة مع هذه الملحمة الاستثنائية بأنني أستقل قطار الشرق السريع ذاته وأغوص في أعماق برشلونة وعلى حدودها بل وأتمرد على حدودها وأذهب إلى باريس مدينة النور، وبالطبع كل ذلك بالوقود المتجدد الذي يضخه كارلوس زافون بكلماته في دمائي. الحماسة التي شعرت بها مع كل كلمة في الملحمة قد جعلتني أتوق لرؤية الشخصيات. أن أكون صديقًا لهم. قد وقعت في حب بيا، وأليثيا وإيزابيلا معًا. وقد شعرت أنني دانيال وفيرمين ودافيد مارتين وخوليان الكبير وخوليان الصغير في آنٍ واحد. شعرت وأنني برشلوني الأصل، وبيتي هو مقبرة الكتب المنسية. كارلوس زافون قد لعب لعبته ورسم متاهته المستحيلة، وقد أحكم حبكة قصته وملحمته المبدعة. وقد جعلني أهيم حبًا في القصة وتفاصيلها. قصة تتألف مما يزيد عن ألفي صفحة. تلمح فيها النار تستعر في مناطق وتخبت في مناطق أخرى، ثم تتبدل الأدوار وتتغير الأحوال، وتفور الدماء في العروق، وتشعر بالتقزز ثم تتنفس الصعداء على مقاعد الميناء في صباح ضبابي ملفوف برداء الملائكة فتهدأ، ثم ترى بجانبك فيرمين يأكل حبات السوغوس كأنه قد عثر على كنزه المفقود، وداينال بعينيه الناعستين - أو هكذا خُيل لي - يجلس على الجانب الآخر ينظر في الأفق بلا هدف.
متاهة الأرواح هي المحطة الأخيرة في ملحمة مقبرة الكتب المنسية الخاصة بكارلوس زافون. الكتاب هو الأطول في الكتب الأربعة. يمتليء بتفاصيل قد تتوه من كثرتها. الرواية عبارة عن أحجية ضخمة قد بعثر زافون قطعها بدقة متناهية على مدار الأجزاء الأربعة، ثم وضع القطع الصغيرة في روايته الأخيرة. قطع قد تصدمك حينما تعثر عليها. ستقف مشدوهًا في مواقف كثيرة وتتعجب من عبقرية الكاتب في إبداع حيل كهذه على طول الرواية. وأثناء تقدمك في الرواية الطويلة التي تتألف من ألف صفحة وثلاثين، سيساعدك كارلوس زافون على العثور على القطع المفقودة. لن تستطيع وحدك إكمال الأحجية حتى تصل إلى الفصل الأخير، حينها فقط وبمساعدة الكاتب الأصلي من جهة وبمساعدة الراوي من جهة أخرى ستتمكن من تركيب القطع في مكانها الصحيح لتكتمل الأحجية في غمضة عين. حينها فقط سينكشف العالم أمامك، برشلونة كما لم تراها من قبل.
في رأيي هي واحدة من أعظم الملحمات وأكثرها إتقانًا. رحلة تحبس الأنفاس في كل جزء فيها وفي كل محطة سيجعلك كارلوس زافون تكتشف جزءً جديدًا من خارطة برشلونة، أو خارطة عقله. إبداع يأخذ العلامة الكاملة عن جدارة بغض النظر عن الهفوات البسيطة جدًا التي وقع بها زافون. أضمن لك رحلة ممتعة في حكاية استغرقت ثلثي قرن من الزمان. ستعيشها في شهر أو اثنين.
كما أن الترجمة الرائعة للأستاذ معاوية عبدالمجيد قد أضاف روعة إلى الرواية على روعتها. وقد حلق بها في سماء إسبانيا ليراها كل سكان الوطن العربي. اختياره للكلمات والألفاظ التي لا نستعملها كثيرًا في الأدب العربي، ولكن كان لابد منها للتعبير عن مشاعر كارلوس زافون وعدم الإخلال بلغة الرواية كان عملًا مبدعًا بحق.
وفي الأخير أحب أن أنوه أن الملحمة تتكون من أربعة أجزاء تستطيع أن تبدأ من أي جزءٍ فيها فهي غير مرتبة وغير متسلسلة، ولكنها مترابطة جدًا ومتناغمة تمامًا. ولكن لا تقرأ متاهة الأرواح قبل أن تقرأ الثلاث محطات الأولى، لأنها تحتوي على الحل النهائي وينبعث منها ضوء المحطة الأخيرة حيث يجلس كارلوس زافون منتظرًا لتقص عليه انبهارك من الملحمة.
تعليقات
إرسال تعليق